متى يتوقف اللاعبون بالنار في مصر؟
هذا قرار ضخم كان لابد له من رافعة من العيار الثقيل، تجعل من صدوره أمرًا مقبولًا داخليًّا، ومبررًا خارجيًّا. ومن ثم كانت تفجيرات مديرية أمن الدقهلية التي تعتبر من النواحي الاستراتيجية من المنصات الملائمة جدًّا لإطلاق شرارة غضب شعبي ــ أو على الأقل مصطنع ــ ضد جماعة الإخوان، لكثرة وجود الفلول ورموز نظام مبارك بها، وكثرة المواجهات المتكررة بين معارضي الانقلاب ومؤيديه. وبالفعل لم يمض على وقوع الانفجار سوى دقائق، حتى خرج المتحدث الرسمي باسم رئيس الوزراء المصري ليعلن؛ الإخوان جماعة إرهابية. فما هي أبعاد هذا القرار وتداعياته المتوقعة على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي؟
الأجواء السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر منذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو ملبدة بالغيوم، والبلاد أصبحت تسير من سيئ لأسوأ، والانحدار الاقتصادي وصل لمعدلات قياسية من البطالة والغلاء والعجز في الموازنة، حتى أعلن رسميًّا عن إفلاس مصر بوصول الدين العام لما يوازي 100% من الناتج القومي. في ظل هذه الأزمات المتتالية أخذت الأرض تحت أقدام الانقلاب في الاهتزاز بشدة منذرة قرب الانهيار، وأصبح ظاهرًا للعيان أن الانقلاب قد دخل في أزمة مستحكمة مع تصاعد المد الثوري إلى مستويات حرجة غير مسبوقة، على أعتاب الاستفتاء على الدستور الانقلابي، وبين يدي ٢٥ يناير القادم، ومع انهيار اقتصادي متسارع، اضطر الانقلابيون إلى استخدام وديعة حرب الخليج، مع تلويح الأمريكان بوقف المساعدات غير المباشرة عبر صنائعهم في الخليج، بسبب فشل الانقلاب في إحكام قبضته على مجريات الأمور في البلاد منذ ستة أشهر، وذلك كله يجعل مسألة إنهاء الحالة الثورية ضرورة ملحة لا تحتمل التأجيل، ولو أدى ذلك إلى الدخول في حرب أهلية، وحرق البلاد طولًا وعرضًا، وهو ما صرح به راعي الانقلاب الأول في مصر "ساويروس"، وهو ما رأيناه صراحة في اليومين الماضيين.
فالإعلان عن الإخوان كتنظيم إرهابي قد جاء متزامنًا مع تصريحات هستيرية من جانب أبرز شركاء الانقلاب؛ ساويروس وحزب النور، هددوا فيها بعدم الصبر على ما يجري في مصر من الثوار المعارضين للانقلاب، والنزول إلى الشوارع لمواجهتهم، كما جاء متزامنًا مع إغلاق مئات المؤسسات الخيرية، وفقدان مئات الآلاف من الفقراء للدواء والغذاء بسبب هذا القرار القاسي، ومع تسريبات شبه مؤكدة عن حصول عمليات اغتصاب لفتيات الإخوان المعتقلات في سجون الانقلابيين، وإفلات قطعان البلطجية على البيوت والمحلات للترويع والسرقة والنهب والقتل، وأخيرًا تظهر دعوات على صفحة الشؤون المعنوية في الجيش، وصفحات ضباط في الجيش، على الفيسبوك، لتدشين حملة شعبية لإبادة الإخوان وتهجيرهم ووضع اليد على أملاكهم.
هذه الأجواء الحربية التي تستدعي أسوأ نماذج الاحتراب الداخلي والقتال الأهلي تؤكد على أن قادة الانقلاب على استعداد للوصول إلى أبعد مدى من أجل تأمين سلطتهم أو الحفاظ على أرواحهم، فالضغوط من دول الخليج ومن شركاء الانقلاب ومن مموليه تدفع قادة الانقلاب لرفع سقف ووتيرة القمع لمستويات جنونية، من أجل هدف واحد فقط: وقف المظاهرات التي تعتبر العقبة الكؤود أمام تمرير المسار السياسي لخارطة الطريق. وهنا تبرز المشكلة الأساسية، وهي أن القرار المصري قد أصبح منذ الانقلاب قرارًا مستوردًا، يأتي من الخارج، ثم يجري تصنيعه وتنفيذه محليًّا بأيدي مصرية، وهو ما يجعل دائمًا القرار غير متماشٍ مع المصلحة الوطنية والأمن القومي للبلاد؛ إذ إنه يوضع وفق معايير ومصالح أخرى، لا تبالي بمصلحة البلاد في شيء، وهو ما جعل ممولي الانقلاب خاصة في دول الخليج يأخذون قادة الانقلاب ومصر معهم نحو نفق مظلم بعد سيل القرارات الخاطئة والصادمة، ومن آخرها قرار اعتبار الإخوان جماعة إرهابية، غير مبالين بالتداعيات الخطيرة للأمن القومي والإقليمي والدولي على مثل هذا القرار.
أما على الصعيدين الإقليمي والدولي، فنستطيع أن نقول: إن هذا القرار جزء من منظومة عمل أطلقت منذ الوقوف على مآلات ثورات الربيع العربي، ووصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في معظمها، مما أطلق كل المخاوف الإقليمية والدولية من تبعات هذا الوصول، وبالفعل جرت مراجعات شاملة للمواقف الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، من أجل القضاء على الصعود الإسلامي «السني»، بتجلياته المختلفة، في بلاد الثورات العربية، وبالأخص حركة حماس في غزة. ولتحقيق هذا الهدف جرت مراجعة الموقف من الثورة السورية، باحتواء هذه الثورة وحصارها، والتعاون مع بشار الأسد وحلفائه الشيعة، لمحاصرة هذا الصعود، ومحاربة من يسميهم نصر الله "التكفيريين"، وتسميهم أمريكا "الإرهابيين"، كما أعلنت دول الخليج منذ اليوم الأول لثورة 25 يناير انحيازها لنظام مبارك، ورفضها فكرة الثورة بالأساس، وقطعت دول الخليج مساعداتها السخية لمصر، وأغلقت دونها الأبواب، وبعد وصول الإخوان للرئاسة أصبح التآمر علنيًّا ضد مصر وحكامها الجدد، ووصل التآمر لقمته بتمويل الانقلاب العسكري في 3 يوليو.
غير أن الهدف من الانقلاب على ما يبدو كان أكبر من خدمة عروش الملوك والأمراء، فالأحداث التي تلت الانقلاب أثبتت أن الكيان الصهيوني هو المستفيد الأكبر من الانقلاب. في اللحظات التي كان يقرأ فيها بيان الانقلاب، كانت قوات الجيش تهدم الأنفاق بين غزة وسيناء، هدمًا شاملًا وتامًّا وغير مسبوق، مع دعوات معلنة في فضائيات الانقلاب لاجتياح قطاع غزة، وظهور تقارير استخباراتية من جهات عديدة تشير إلى تعاون الإمارات مع النظام الانقلابي في مصر لإسقاط حركة حماس، والتي أكدتها زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي هزاع بن زايد إلى مصر في 2 يوليو بصحبة شيطان فتح محمد دحلان في زيارة سرية، والالتقاء مع السيسي وبعض القيادات العسكرية، لتنسيق المواقف المشتركة، ثم قرار إغلاق معبر رفح، الممر الوحيد بين قطاع غزة والعالم، ومنذ تلك اللحظة وإلى الآن والتحريض على حركة حماس مستمر، ومحاولة توريطها في التفجيرات الأخيرة، وذلك لأجل ضرب الحركة الوحيدة المقاومة للاحتلال الصهيوني. ففرض تسوية جائرة على الفلسطينيين لن يمر إلا عبر إنهاء جناحها المقاوم، ووأد تجربة الإخوان الوليدة في مصر.
ما يجري في مصر اليوم على يد الانقلابيين ليس معزولًا ولا هو صناعة محلية خالصة، وإنما هو جزء من ترتيب لأوضاع إقليمية تحمي الأوضاع والأنماط الموروثة من رياح التغيير التي هبت مع ثورات الربيع العربي، ومحو كل آثارها السياسية والاجتماعية على الكيانات التي أسسها الغرب ووكلاؤه في المنطقة منذ عشرات السنين. نعم قد تبدو أطراف المؤامرة متعارضة في العديد من الملفات، ولكنهم حتمًا متفقون على ضرورة وأد تجربة ثورات الربيع العربي، وإنهاء تجربة حكم الإسلاميين الناشئة، فالتوتر الشديد في العلاقات بين السعودية وأمريكا، ودول الخليج مثل السعودية وعمان، والإمارات والبحرين، والخلاف الأيديولوجي والإستراتيجي التاريخي بين روسيا وأمريكا، كل هذه الأمور لم تمنع من تحالف الجميع من أجل القضاء على جماعة الإخوان المسلمين.
ولكن هل يستطيع أي طرف من أطراف معادلة الانقلاب في الداخل والخارج الإجابة على التساؤل الأهم في هذه القضية وهو: كيف سيكون الحال إذا قررت جماعة الإخوان ذات التنظيم الدولي الكبير، والانتشار الأفقي الواسع، والتغلغل السياسي والاجتماعي الممتد، ماذا لو قررت جماعة بهذا الحجم الضخم أن تتخلى عن نهجها السلمي والإصلاحي، وتنتهج سبيل العنف، ليس على مستوى مصر فحسب، بل على مستوى العالم بأسره؟ وإن جادل البعض بالقول بأن الجماعة لن تتخلى عن نهجها الإصلاحي والسلمي أبدًا مهما كانت الضغوط، من يضمن ثبات واستقرار القواعد الشعبية الضخمة المؤيدة من نبذ هذا السبيل والرد بعنف على الاستفزازات العاتية ضدهم؟ لكم أن تتخيلوا مثلًا أن أعداد المنتمين فعلًا للجماعة في مصر يزيدون عن مليون شخص، ماذا لو قرر 1% منهم فقط انتهاج العنف وحمل السلاح ضد الانقلاب وشركائه، كيف سيكون الوضع وقتها؟ إن آخر ما يحتاجه العالم وأمريكا ومصر هو ظهور جماعات عنف جديدة؛ لأن وقتها سيكون اللاعبون بالنار في مصر والمنطقة هم أول من سيحترق بها.