في العزاء والصبر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبه أجمعين ومن اهتدى
بهديه الى يوم الدين، وبعد :-
لنعلم ، إن سنة الله تعالى ماضية على خلقه وعبيده، جعل للدنيا نهاية،
وللآخرة بداية، فجعل الأولى دار عمل، و جعل الآخرة دار جزاء.
قال تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ
}آل عمران 185، يقول السيد قطب معلقا على هذه الآية الكريمة: (إنه لا بد من
استقرار هذه الحقيقة في النفس : حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة
بأجل؛ ثم تأتي نهايتها حتماً . . يموت الصالحون يموت الطالحون، يموت المجاهدون
ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد ، يموت الشجعان
الذين يأبون الضيم ، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن ، يموت ذوو
الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية ، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع
الرخيص .
الكل يموت، كل نفس تذوق هذه الجرعة ، وتفارق هذه الحياة . . لا فارق بين نفس ونفس
في تذوق هذه الجرعة ، إنما الفارق في شيء آخر ، الفارق في قيمة أخرى، الفارق في
المصير الأخير :{ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } هذه هي القيمة التي
يكون فيها الافتراق ، وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان ، القيمة
الباقية التي تستحق السعي والكد، والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف
حساب)أ.هـ.
فبما انه مصير وسنة ، فلا حاجة إذن للاعتراض ، فصاحب المُلك أحق بملكه، ونحن ملكه،
وما ينجيك إلا الرضا والصبر، ولا يضنيك إلا السخط والجزع، ثم لا جدوى منهما.
فسارعت الآيات بالتنبيه والأحاديث بالتفصيل في أحكام مَنْ ألَـمَّته مصيبة الموت ،
نقف عندها على محاور:-
المحور الأول: فضل الصبر وجزاء الصابرين.
قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ
مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155}
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا
إِلَيْهِ رَاجِعونَ{156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) البقرة: 155-157.
(المصيبة) هنا في هذه الآية الكريمة هي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما، ومن
ذلك موت الأحباب والأولاد والأقارب والأصحاب، ومن أنواع الإمراض في بدن العبد أو
بدن من يحب يدخل ضمن المصيبة أيضا.
فجزاء الصبر على ذلك هو (الرحمة) إي: عليهم صلوات الله ثم رحمة عظيمة، ومن رحمته إياهم
أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر .
(وأولئك هم المهتدون) الذين عرفوا الحق، وهو علمهم بأنهم لله وإنهم
إليه راجعون وعملوا به ،وهو هنا صبرهم لله.
وكذلك فان الله عز وجل يقول: َ(وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ
رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا
ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) أل عمران:46.
ففي الآية الإطلاق بمحبة الله عز وجل للصابرين ، الذين يصبرون على مصاعب الحياة
ومتاعبها، وكيف لا يُرجى حب الله وهو الذي أعطى وانعم؟ وكيف لا يُبتغى حب الله وهو
الذي أغنى وأكرم؟ وكيف لا وهو مالك الملك؟ حتى قال سبحانه في سورة الزمر : (قُلْ
يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر:10، ثم هذا جزاؤه، يوفى الصابرون
أجرهم بغير حساب وهذا لا يكون إلا لمن صبر ابتغاء وجه الله سبحانه.
قال الشاعر:
إني رأيـت وفي الأيام تجـربة
--- للصـبر عاقبة محمـودة الأثر
وقل من جد في أمر يحاوله --- واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
وهذا مجرب لدى النفوس
الكبيرة، المتعالية على مصائب الدهور، فتعود بعد قذفها بشبهة العجز من قبل ، الى
حقيقة القدرة في أجمل رؤى، فيكون اشتماله على الخير محاطا به من كل جوانبه وفي كل
لحظاته ، وهذا ما تؤكده أم سلمه رضي الله عنها أم المؤمنين فقالت: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ
مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أجرني
في مصيبتي وَأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَجَرَهُ اللَّهُ في مُصِيبَتِهِ
وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا » قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّىَ أَبُو سلمه قُلْتُ
كَمَا أمرني رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْلَفَ اللَّهُ لي خَيْرًا
مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-رواه البخاري.
وهذا الأمر ليس مختصا بموت الزوج كما ظن البعض، وإنما بكل مصيبة تلمُّ
النفس، يؤكده حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: « إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي ! فيقولون: نعم،
فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده ! فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي ؟ فيقولون: حمدك واسترجع،
فيقول الله: أبنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد » رواه الترمذي وحسنه الألباني.
ولا يجني احد ثمارا كهذه إلا بتحقيق شروطها ليكون الصبر فيها أعلاه وارقأه
، فأول هذه الشروط : الإخلاص لله تعالى في الصبر وهذا قول الله تعالى:
(وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ
وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) الرعد:22.
لله وحده ، لا تحرجاً من أن يقول الناس : جزعوا ، ولا تجملاً ليقول الناس :
صبروا ، ولا رجاء في نفع من وراء الصبر ، ولا دفعاً لضر يأتي به الجزع ، ولا لهدف
واحد غير ابتغاء وجه الله ، والصبر على نعمته وبلواه ، صبر التسليم لقضائه
والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع.
وثاني شروطه: عدم الشكوى من الله لعباده ، وبهذا أشار رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال : قال الله تعالى : (إذا ابتليت عبدي المؤمن ولم يشكني إلى عواده أطلقته
من أساري ثم أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه ثم يستأنف العمل) رواه
الحاكم وهو صحيح على شرط الشيخين.
وكيف لا تمتثل الروح البشرية الصبر والمصطفى إمام الصابرين؟ يوم أن عودي وأوذي
وشتم وضرب ما كان متدرعا إلا بدرع الصبر لأنه إمام الصابرين ، صبر على بريق
المناصب والأموال وشهوة الرئاسة والملذات ، ومحنة الطائف خير شاهد على ذلك.
ثم كان موته عليه الصلاة والسلام خير دروس الصبر لصحابته رضي الله عنهم، فما أعظم
من مصيبة النفس بموت النبي صلى الله عليه وسلم وهي تعيش معه ، لا تصدق بان الفراق
مع الحبيب وهو خير من خلق الله واقع أبدا ، لكنه وقع بالفعل لتَهون المصائب بعده
كلها، حتى قال شاعر الصبر:
اصبر لكل مصيبة
وتجلـد --- واعلم بان المرء غير مخلد
وإذا ذكرت محمدا ومصابه --- فاذكر مصابك بالنبي محمد
وال البيت رضي الله عنهم ،كان
للصبر حقيقة في أفئدتهم، وكان في كل شيء للصبر محل ، فهذه فاطمة رضي الله عنها،
وهي بنت خير من خلق الله ، خاتم الرسل الكرام، وَاشْتَكَت رَضِي الْلَّه عَنْها
مَجّل يَدَهَا أي تَقْطِيْع يَدَهَا نَتِيْجَة الْعَمَل الْشَّاق وَاسْتَقَت
بِالْقِرْبَة حَتَّى أَثَّرَت فِي عُنُقِهَا، وَقَامَت الْبَيْت حَتَّى اغْبَرَّت
ثِيَابُهَا وَخَبَزَت حَتَّى تَغَيَّر وَجْهِهَا؛ لِأَن الْخَبَّاز مَع لَفْح نَار
الْفُرْن يَتَغَيَّر لَوْن وَجْهَه كُل ذَلِك حَصَل لـفَاطِمَة رَضِي الْلَّه
عَنْهَا فَاقْتَرَح عَلَيْهَا عَلِي رَضِي الْلَّه عَنْه أَن تذْهب إِلَى
أَبِيْهَا تَطْلُب خَادِمَا، حَيْث إِن عَلِيّا رضي الله عنه لَم يَسْتَطِع أَن
يُوَفَّر لَهَا خَادِمَا، لَكِن الْنَّبِي الأب الْمُشْفِق الْحَنُون دَلْهَا
عَلَى مَا هُو خَيْر لَهَا مِن خَادِم فَقَال : أَلَّا أُخْبِرُك مَا هُو خَيْر
لَك ؟ فَذَكَر لَهُمَا الْتَّسْبِيح ثَلَاثا ً وَثَلَاثِيَن وَالْتَّحْمِيْد
ثُلَاثَا وَثَلَاثِيَن وَالتَّكْبِيْر أَرْبُعَا وَثَلَاثِيَن قَال: (فَتِلْك
مِائَة بِالْلِّسَان وَأَلْف فِي الْمِيْزَان) أَي أَن الْأَجْر عِنْد الْلَّه
الْحَسَنَة بِعَشْرَة أَمْثَالِهَا، فَذَلِك خَيْر لَكُمَا مِن خَادِم) فرضي الله
عن الصابرة .
وهل من صابرة اليوم على فقر زوج، وقلة مال، وخصوصا في هذه الأيام المتسارعة
للذائذها الأنفس الضعيفة؟ فَكان مَهْرُهَا-وهي سيدة نساء العالمين- دِرْعَا وَ إن
فِرَاشَهَا أَدَمَا حَشْوُه لِيْف، وَكَان تَجْهِيْز بَيْتِهَا سِقَاءَين
وَرَحَائِين وَكَانَت مَعِيَشَتَهَا أَن تَخْدِم بِنَفْسِهَا ،وَأَن تَقُوْم بِحَق
زَوْجَهَا رَضِي الْلَّه عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وأبوها رسول الله، لكن من صبر على
البلاء صبر على ما سواه.
إلا تغمر القرائح صبر الحسين رضي الله عنه وما حدث له من البلاء؟ لكن الألباب
القوارح لها في أولئك الصادقين أسوة، فرضي الله عنهم جميعا، آلا ، وأصحابا.
المحور الثاني: الرضا بالقضاء والقدر.
انه تقدير الله تعالى للأشياء في القدم ، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة
، وعلى صفات مخصوصة ، وكتابته لذلك ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه
لها.
والقرآن الكريم ذكر ذلك في كثير من الآيات كقوله -على سبيل المثال- في سورة القمر
:
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)
القمر:49. وهذه أية ومثال ، وعدد الآيات التي تكلمت عن القضاء والقدر عشرة، منثورة
في تضاعيفه.
والسنة النبوية المطهرة كانت لها أربع أدلة صرحت بالقضاء
والقدر ، منها حديث جبريل المشهور وفيه (وان تؤمن بالقدر خيره وشره)، وعلى ذلك أجمعت
الأمة على وجوب الإيمان به.
حتى الجاهلية قبل الإسلام ، عرفت القدر ولم تنكره ، فافصحوا
عنه بخطبهم ، وإشعارهم ، فمن قول لعنترة :
يا عبل أين من المنية
مهربي --- إن كان ربي في السماء قضاها؟
ولما نردد الكلمة المشهورة على
السنة الناس بـ ( إن الحذر لا ينجي من القدر) نتذكر قائلها، وهو هاني بن مسعود
الشيباني، أباح بها يوم ذي قار في الخطبة التي ألقاها.
فما من شيء إلا وقد خلقه الله بقدر، قال الحسن البصري رحمه
الله في كلمته عن القدر: (ان الله خلق خلقا فخلقهم بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم أرزاقهم
بقدر، والبلاء والعافية بقدر).
ولك أن تسرح في أبيات الشافعي لترسخ عندك الإيمان بالقدر ، تلك
التي سرحت في فكر ابن عبد البر فقال عنها (هذه الأبيات مِنْ اثبت شيء في الإيمان
بالقدر) قوله:-
وما شئت كان وان لم أشأ ----
وما شئت إن لم تشـأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت --- وفي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا خـذلت --- وهــذا اعنـت وذا لم تعن
فمنهـم شقي ومنهـم سعيد --- ومنــهم قبيح ومنهم حسن