سأل " لماذا قُبل إسلام أبي
طلحة ولم تقبل هجرة مهاجر أم قيس مع أن الدافع واحد ؟! "
السؤال :
أنا متحير بشأن النية وقبولها من عدم قبولها ، ألم تتزوج
" أمُ سُليم " أبا طلحة شرط إن يُسلِم فأسلم
فكان الإسلام صداقها ، وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم ؟ في
حين أنّا نرى في حادثة الهجرة أن أحد الصحابة هاجر فقط لأن من أراد أن يتزوجها " أم قيس " اشترطت عليه الهجرة فأصبح
اسمه " مهاجر أم قيس " ، وقد ورد في
الحديث أن هجرته كانت لذلك الغرض ، وهو الزواج ، وبالتالي
فهجرته لم تقبل لأنها لم تكن خالصة ، فأريد أن أفهم هنا لماذا قُبل إسلام أبي طلحة ولم تقبل هجرة مهاجر أم قيس مع أن الدافع واحد ؟ .
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
قبل الإجابة على السؤال نود أن نشكر الأخ السائل على دقة فهمه وقوة استشكاله ،
ونحن نرحِّب بمثل هذه المسائل التي تفتح أبواباً - لطلاب العلم - من العلم والخير
وتُغلق أبواباً - على المشككين في الشرع - من الجهل والشر .
ثانياً:
ولتتم الفائدة فلنذكر حديث أم سليم مع أبي طلحة رضي الله عنهما ، ولنذكر بعده قصة
مهاجر أم قيس .
1. عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ
فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا مِثْلُكَ يَا أَبَا طَلْحَةَ يُرَدُّ وَلَكِنَّكَ رَجُلٌ
كَافِرٌ وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ
فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي وَمَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ فَأَسْلَمَ فَكَانَ
ذَلِكَ مَهْرَهَا .
قَالَ ثَابِتٌ : فَمَا سَمِعْتُ بِامْرَأَةٍ قَطُّ كَانَتْ أَكْرَمَ مَهْرًا مِنْ
أُمِّ سُلَيْمٍ الْإِسْلَامَ فَدَخَلَ بِهَا فَوَلَدَتْ لَهُ .
رواه النسائي ( 3341 ) وصححه ابن حجر في " فتح الباري " ( 9 / 115 ) -
وردَّ على من أعلَّ متنه - وصححه الألباني في " صحيح النسائي " .
وقد بوَّب عليهما النسائي بقوله " باب التزويج على الإسلام " .
2. وأما قصة مهاجر أم قيس : فالظاهر أنها صحيحة ، لكن لم يصح أنها سبب حديث ( إنما
الأعمال بالنيات ) .
عن شقيق قال : قال عبد الله : " من هاجر يبتغي شيئا فهو له ، قال : هاجر رجل
ليتزوج امرأة يقال لها : أم قيس وكان يسمى مهاجر أم قيس " .
رواه الطبراني في " الكبير " ( 8540 ) .
قال ابن حجر - رحمه الله - : " وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين " انتهى
من " فتح الباري " ( 1 / 10 ) .
وقال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - : " وقد اشتُهر أن قصة " مهاجر أم
قيس " هي كانت سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من كانت هجرته إلى دنيا
يصيبها أو امرأة ينكحها ) وذكر ذلك كثير من المتأخرين في كتبهم ، ولم نرَ لذلك
أصلاً يصح " انتهى من " جامع العلوم والحِكَم " ( ص 14 ) .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " وقصة " مهاجر أم قيس "
رواها سعيد بن منصور قال : أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله - هو
ابن مسعود - قال : من هاجر يبتغي شيئاً ... – وساق الأثر - .
ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ " كان فينا رجل خطب امرأة يقال
لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس
" ، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب
ذلك ، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك " انتهى من " فتح
الباري " ( 1 / 10 ) .
ثالثاً:
خلاصة ما ذكره أهل العلم في الجواب عن الإشكال : أن هناك فرقا بين حال الداخلين في
الإسلام وحال المهاجرين ، فمن دخل في دين الله تعالى خالصاً من قلبه معتقداً صحة
الرسالة ، وليس من أجل مالٍ ولا دنيا فهو في مرتبة أعلى ممن دخله من المؤلَّفة
قلوبهم والذين دخلوا فيه طمعاً في المال ، وهذا في الابتداء ، وإلا فقد يَحسن
إسلام هذا الثاني فيصير أعظم منزلة من الأول ، ومثله يقال في المهاجر من بلد الكفر
إلى بلد الإسلام ، فمن كانت هجرته نصرة لدين الله ، وفراراً من بلاد الشرك فهو ليس
كمن هاجر من أجل دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فالأول يحصِّل أجر الهجرة ، وأما
الثاني فإنه وإن جاء بصورة الفعل – وهو مفارقة بلاد الكفار نحو بلاد الإسلام –
فإنه ليس له أجر الهجرة ، بل له ما هاجر من أجله ، وإن كان قد خلط بين نية الهجرة
لله ونية التزوج وإصابة الدنيا : فهو دون الأول بلا شك ، وله من الأجر بقدر ما وقع
في قلبه من نية الهجرة الشرعية .
والذي يظهر لنا أنَّ أبا طلحة رضي الله عنه قد دخل الإسلام رغبة فيه ، وأنه قد جمع
معها الرغبة بالتزوج بأم سليم ، بدليل أنه قد حسن إسلامه فيما بعد وكان من أجلاء
الصحابة ، والذي يظهر لنا – كذلك – أن " مهاجر أم قيس " لم يهاجر إلا
بقصد التزوج فجاء بصورة الفعل دون قصد العبادة ، وليس فعله حراماً ولا تزوجه
باطلاً ، لأن الهجرة ليست العبادات المحضة ، كالصلاة والصيام ونحو ذلك ، وإنما هي
بحسب قصد المهاجر ؛ فمن هاجر لتجارة أو نحوها من المباحات : فهجرته مباحة ، ومن
هاجر لقربة : فهجرته طاعة وقربة ، ومن هاجر لمحرم : فهجرته محرمة . وإن خلط في
هجرته بين قصد المباح ، وقصد القربة والطاعة ، فهو بحسب ما غلب على قصده ونيته .
قال ابن حجر – رحمه الله - : " وقال الكرماني : يحتمل أن يكون قوله ( إلى ما
هاجر إليه ) متعلقاً بالهجرة فيكون الخبر محذوفاً والتقدير : قبيحة ، أو : غير
صحيحة - مثلاً - ويحتمل أن يكون خبره
( فهجرته ) والجملة خبر المبتدأ الذي هو ( من
كانت ) " . انتهى .
وهذا الثاني هو الراجح ؛ لأن الأول يقتضي أن تلك الهجرة مذمومة مطلقاً ، وليس كذلك
؛ إلا أن حمل على تقدير شيء يقتضي التردد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى
بهجرته مفارقة دار الكفر وتزوج المرأة معا ، فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة ، بل هي
ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة ، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك
بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة ، فأما من طلبها مضمومة إلى
الهجرة فإنه يثاب على قصد الهجرة ، لكن دون ثواب من أخلص ، وكذا من طلب التزويج
فقط لا على صورة الهجرة إلى الله لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد
به القربة كالإعفاف ، ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه
النسائي عن أنس قال : " تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام
أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها ، فقالت : إني قد أسلمت فإن أسلمت تزوجتك ،
فأسلم فتزوجته . وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهة ، وضم إلى ذلك
إرادة التزويج المباح " انتهى من " فتح الباري "
( 1 / 17 ) .
وقال النووي – رحمه الله - : " قوله صلى الله عليه وسلم ( فمن كان هجرته إلى
الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) معناه : من قصد بهجرته وجه الله : وقع أجره
على الله ، ومن قصد بها دنيا أو امرأة : فهي حظه ولا نصيب له في الآخرة بسبب هذه
الهجرة " انتهى من " شرح مسلم "
( 13 / 54 ، 55 ) .
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب