بسم الله الرحمن الرحيم
كيف لو رأيت النبي ؟
إذا لقيته صلوات الله وسلامه عليه، فسمعت منه ورأيته، فما عساك تفعل إلا أن تنقش صورته ووصيته في قلبك، حتى تعيش سني حياتك على ذكره وصورته ؟.
أيها الإخوة!.
بين أيدينا حديث ينبغي أن تأمله مليا؛ قوله صلى الله عليه وسلم:
(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). البخاري/ الإيمان.
قال: (لا يؤمن..). هذا نفي للإيمان، وبدء الكلام بنفي الإيمان، يدل على أن ما بعده ليس بالهين ولا باليسير.
ثم قال: (حتى أكون أحب إليه من ولده.. ) إلخ. أي نفسَه صلى الله عليه وسلم تكون أحب إلينا من كل شيء، حتى من النفس.
كان النبي صلى الله عليه وسلم آخذا بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: (يا رسول الله!، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي: لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي: الآن يا عمر). البخاري/ الأيمان والنذور.
فتقديم محبة النبي شرط للإيمان؛ أي لا يتحقق إلا به، فما معنى هذا ؟.
هل معناه: زوال وضياع إيمان من قدم شيئا على محبة النبي، أم ضعفه وخفوته، أم ماذا ؟.
عندما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن ..)، فله ثلاثة معاني، وكل معنى من هذه المعاني الثلاثة لها نصيب وتنزيل على كلامه صلى الله عليه وسلم هنا:
الأول: نفي الإيمان وزواله بالكلية، فيكون صاحبه كافرا خارجا من الملة.
فمن قدم محبة نفسه أو ولده أو والده أو أي شيء، على محبة النبي صلى الله عليه وسلم، في شيء هو من أصول الإيمان كتوقيره واحترامه، فرضيت نفسه وأحبت سبه وشتمه، أو محبة من سبه وشتمه، فقد خرج من الملة بهذا التقديم.
الثاني: ضعف إيمانه بحدوث الخلل فيه، لكن من غير خروج عن الملة.
وذلك إن قدم محبة نفسه على محبة النبي صلى الله عليه وسلم، في شيء هو من فرائض الإيمان، فرغبت نفسه وأحبت أن تترك أمره بالمحافظة على الصلاة أو الزكاة ونحو ذلك، أو أن تهمل نهيه عن فعل الكبائر كشرب الخمر، أو الزنا، أو السرقة: فقد ظلم نفسه، وأضر بإيمان ضررا بليغا، وإن لم يخرج من الملة، بل ينزل عن مرتبة الإيمان إلى الإسلام.
الثالث: نزول مقامه في الإيمان عن المراتب العليا إلى الدنيا.
بأن يقدم محبة نفسه على محبته صلى الله عليه وسلم، في شيء هو من المستحبات، فيترك النوافل، أو يفعل المكروهات إتباع لهوى نفسه، فقد نزل عن مقامات الإيمان العليا.
والنتيجة: أن التقديم قد يفضي إلى زوال الإيمان، أو خلله، أو نزوله عن درجة الكمال.
ففي كل هذه الأحوال: لا يسلم الإيمان من النقص.
بعض العلماء كابن تيمية، يرى أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن) لا يكون إلا مع فعل آثم، كترك فريضة أو فعل كبيرة؛ لأن الإيمان واجب، ولا ينفى الواجب إلا لترك واجب.
بهذا يتبين لنا أهمية تقديم محبة النبي صلى الله عليه وسلم، مما يلزمنا التعرف إلى حقيقة المحبة النبوية، ولبيانها نقول: إنها لا تتحقق إلا بثلاثة أمور:
الأول: الميل القلبي؛ الذي يحرك القلب والشعور تجاه النبي، فيطرب لذكره، ويشتاق لرؤيته، ويكون من ديدنه الصلاة عليه، حتى إنه يراه في منامه ولو في بعض الأحيان.
الثاني: الطاعة التامة، وعدم تعمد مخالفته؛ فهذا من أظهر علامات المحبة.
الثالث: النصرة حسب القدرة، باللسان أو باليد، أو بالقلب وذلك أضعف الإيمان.
قال تعالى: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.
فالإيمان به: هو التصديق به. وتعزيره: هو توقيره واحترامه. وهذا يتضمن الحب وميل القلب؛ لأن التوقير لا يكون إلا لمحبوب. ونصرته معلومة. وإتباع نوره: هو طاعته.
قال تعالى في الذي جمع هذه الحقوق النبوية: {أولئك هم المفلحون}.
إن هذه الأمة حظيت بهذا النبي، فكان بركة عليها وخيرا عميما.
فإنه خليل الله، وأحب الخلق إلى الله، وهو سيد ولد آدم، وقد أنزل الله تعالى إليه أحسن كتبه، وأمده بأكمل الشرائع، فشريعته مهيمنة على جميع ما سبق، قال تعالى:
{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه}.
وقد أخذ الله العهد على الأنبياء أن يتبعوه لو وجدوا في زمانه: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه..}.
وقد تقدمهم وأَمَّهم في الإسراء، وكلهم يتأخرون وهو يتقدم يوم الحساب.
لكل هذه الفضائل رجحت أمته، ورجعت فاضلة على جميع الأمم.
فإن الله تعالى خفف عنها به: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}، فلم يحمل عليهم ما حمله على بني إسرائيل؛ فإنهم التوبة أمروا بقتل نفوسهم، وفي الطهارة أن يزيلوا النجاسة ومكانها من ثيابهم، وفي الصلاة أن لا يصلوها إلا في المعابد.
كل ذلك وغيره وضع عن هذه الأمة ببركة هذا النبي، وفي بركته زيادة فوق ذلك، أعظم من ذلك، فإن الله تعالى أوفى هذه الأمة أجرا، لم يؤت مثله من تقدم من أمم.
قال صلى الله عليه وسلم: (مثلكم ومثل أهل الكتابين، كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط ؟، فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟. فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي إلى أن تغيب الشمس على قيراطين ؟. فأنتم هم، فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: ما لنا أكثر عملا، وأقل عطاء؟. قال: هل نقصتكم من حقكم ؟. قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء). البخاري/ الإجارة/ الإجارة إلى نصف النهار.
وبناء على هذا الفضل كانوا أكثر أهل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم:
(نحن الآخرون السابقون يوم القيامة..) البخاري/الجمعة
وقال: (إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة) الترمذي/التفسير/ سورة الحج.
إن من فضل هذا النبي وبركته على أمته: أن الله تعالى وصفه بأعز الأوصاف في كتابه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}.
رحمته تلك تجلت في مثل قوله: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا). مسلم/الإيمان/اختباء النبي دعوة الشفاعة.
لم يعرف فضله وبركته، مثلما عرف صحابته؛ الذين رأوه وملئوا أعينهم منه، وسمعوه ورافقوه، ونزلوا وقاموا معه في السراء والضراء، ولما أعطى المؤلفة قلوبهم أموالا من الغنائم بعد حنين، وجد بعض الأنصار في نفوسهم شيئا، فتكلموا بشيء، فبلغه مقالهم، فقال لهم بعدما جمعهم:
(ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله).
ردهم إلى التذكير بنعمة الله عليهم به؛ أن جعله بينهم وإليهم، فلما قايسوا هذا بالمال ومتاع الدنيا، رجح عندهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان له إلا أن يرجح.
ولو بعث فينا لرجح عندنا على النفس والمال والولد والأهل والوالدين والناس أجمعين.
وما ضعف محبتنا الذي علامته: قلة ذكره والشوق إليه، والتكاسل عن طاعته ونصرته، إلا بسبب: أن الملاهي والملهيات كثيرة جدا، والمواعظ قليلة، والمعلمون سيرته وسنته، المقتدون به ندرة معدودون إن لم يكونوا معدومين، فلهذا نسينا، وبعدنا عنه، وعن محبته.
ولو وجد من ينفض عن غبار الغفلة، ويضرب على قلوبنا بسياط المحبة، بالصدق والإخلاص والإتقان؛ ليرسم للناس صورة حية عن حياة النبي؛ أمره ونهية، سنته وسيرته، أخلاقه وفضائله، حتى تكون رأي العين، فالسامع يرى:
لوجدت فينا من يسارع في تقديم محبته على كل شيء، بلا كسل ولا ملل ولا تردد.
وعلامة ذلك: لو قيل – بفرض الخيال – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة في المسجد الحرام، يتكلم ويهدي، وحوله الأمة يسمعون، وتيقن الناس ذلك..
فما شعورك أنت حينئذ ؟. وما عزمك وقصدك سوى ناحية بيت الله الحرام، والسير إليه بأسرع ما يمكن، ولو بإنفاق كل ما لديك من أموال، ولو أدى لأن تترك كل شيء، في سبيل النظر إليه، وسماع كلامه، ولو صدك أحد عنه، فلم تجد وسيلة للإفلات منه إلا القتال لما كان منك تردد.
حتى إذا لقيته صلوات الله وسلامه عليه، فسمعت منه ورأيته، فما عساك تفعل إلا أن تنقش صورته ووصيته في قلبك، حتى تعيش سني حياتك على ذكره وصورته ؟.
أليس هذا حال كل مسلم؟. حتى مدمن الكبيرة يتوب؛ فشارب الخمر يريق خمره، ويقبل على رسول الله، والزاني يعود إلى لباس الإيمان والعفة ويقبل على رسول الله، والسارق يرفع يده عن الحرام، كلهم يقبل على رسول الله تائبين لله يطلبون إليه أن يستغفر لهم ذنوبهم.
قال صلى الله عليه وسلم: (من أشد أمتي لي حبا، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله). مسلم/الجنة/فيمن يود رؤية النبي.
وقد أتى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟. قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد). البخاري/الوضوء/ فضل الوضوء.
لو رسول الله بيننا، لأريناه منا خيرا، لكن بلينا بقلة المعين، وكثرة الصوارف.
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه