شراب إلى العذاب :
العقل نعمة كبرى أنعم الله بها على الإنسان ، وميزه بهذه النعمة عن الحيوان ، بل وجعل العقل مناط التكليف ، فإذا وجد العقل عند الإنسان ، كلفه الله بالعبادات ، ورضي منه المعاملات .
ولذا حـرم الله الاعتداء على العقل ، وعاقب على إضاعته ؛ إذ شرع حداً من الحدود من أجله وهـو شرب الخمر ، حتى يرتدع الجاني ، ويعود إلى رشده وصوابه ، ويترك عقله محفوظاً ، ليعقله عن كل قول مشين وعن كل عمل سيئ ..
ومعنا هذه القصـة شاب تذبذب بين الصلاح والطلاح ، بين الهـدى والغواية ، وكانت نهايته الموت ، وبطنه مليء بالخمـر ، وعقله محجوب بالسكر .
يقول صاحب القصـة :كانت معرفتي بهذا الشاب بسيطة إذ كنت أراه في المسجد حيناً ويغيب أحياناً ، وكنت أسلم عليه بحرارة لعلي أكسب هدايته ، وعلمت أن له رفقاء سوء يؤثرون عليه ، فدعوته للزيارة ولبى ذلك ، ثم خرجنا معه في نزهة إلى أرض خضراء وزادت الصداقة بيننا ، وكان بيننا وإياه ترتيب لجدولنا اليومي عند الاجتماع ، واستمرت علاقتنا به لمدة شهـرين كاملين ، بعدها قدر الله لي أن أنتقل من جواره إلى مكان آخـر ، وانقطع الاتصال بيننا حتى بالهاتف لعدم توفر ذلك . وقد غبت عنه فترة ليست طويلة ولكنني علمت أنه لابد من تعاهده وتذكيره بالله ،إلا أنني كلما اتصلت به من هواتف الأصدقاء أو هواتف العملة يرد أهله بأنه غير موجود .
ومرت الأيام وزاد تأثير قرناء السوء عليه ، واقتضت حكمة الله ـ تعال ـ أن تتغير أحواله ، فقد أخبرني بعض الزملاء ممن كان يذهـب معنا أنه عاد لرفقاء السوء ، وعاد لبعده عن الله عـز وجل ، وأخذت الأسفار في الباطل جل وقته ، فقد أهمل عائلته ، ورجع إلى سالف عهده ، فترك صلاة الجماعة ، وبدأ يتراجع إلى الخلف ، بدأ يسمع الأغاني ، وترك حفظ القرآن ، وترك السباب الصالحين ، وترك الكتب القيمة .
تحسرت على ذلك ، ودعوت الله لي وله ، وحثثت بعض الإخوة على معاودة الاجتماع به وأخذه إلى الرحلات الإيمانية ، لعل الله يهديه وأن يوقظ غفلته وأن يفتح قلبه للخير .
وبعد مدة اتصلت بأحد الزملاء وسألته عنه فتغير صوته ، وبدأ الأثر عليه فسألته ثانية ، فأخبرني أنه مات .
فقلت له : ماذا جرى له ؟ فمنذ مدة لم أره ولم أجده في بيته ، فقد اتصلت عليه كثيراً ، قال لي :إنه سافر إلى شرق آسيا مع رفقاء السوء ، وتناول جرعة كبيرة من المسكر أودت بـه إلى الهلاك ، مات هناك وحمل في تابوت على متن الطائرة العائدة ، ومعه تقرير يثبت أن وفاته كان سببها تناول المخدرات .
وجلت أيما وجل من سوء خاتمته ، وأيقنت أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، قال أهله : ليته مات بأي شيء إلا هذه الموتة ، وهذا التقرير فضحه في الدنيا بين معارفه ، وجلب لأهله الهـم والغـم ، ونكس رءوسهم بين الناس ، وسيفضح على رءوس الأشهاد ، وأمره إلى ربه الذي لا تخفى عليه خافية .
وقد روي أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم ، لقيه بعض المشركين في الطريق : فقالوا له : أين تذهب ؟ فأخبرهم بأنه يريد محمداً صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة ، فقال : إن خدمة الرب واجبة . فقالوا : إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء . فقال : اصطناع المعروف واجب . فقيل له : إنه ينهى عن الزنا . فقال : هـو فحش وقبيح في العقل ، وقد صرت شيخاً فلا أحتاج إليه .
فقيل له : إنه ينهى عن شرب الخمر ، فقال : أما هذا فإني لا أصبر عليه ، فرجع ، وقال : أشرب الخمر سنة ثم أرجع إلى محمد بعد ذلك ، فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات .
ومضى إلى ربه بشربة ، والله ـ تعالى ـ يتولاه وهـو أعلم بحله .
وكم من مفرط يقول : يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله ، ويتمنى العودة عند الموت إلى دنياه ، ليعمل عملاً صالحاً ، ولكنه هيهات ؛ إذ ضيع الأوقات واشتغل بالسيئات ، وأعرض عن الحسنات ، وقد كان في إمكانه العمل ، ولكنه غفل ، واستحوذ عليه الأمل ، ونسي الأجل ......
.